محطة 🌙

أنت راكب في كابينة قطار، درجة VIP، قطار طويل لا يبدو له أول من آخر، بجانبه قطارات عديدة مختلفة الأشكال والسرعات، أنت من تتحكم بسرعة هذا القطار ومدى استفادتك من فترة مكوثك واستغلال ما حولك من خدمات وإمكانات، الطرق متعددة والمسارات كذلك والمحطات متوفرة للانتقال من قطار إلى آخر وللتزود بما تريد لكن نقطة النهاية واحدة..

يمتاز قطار منها بأنه يعزز سلوك الغذائي والرياضي والصحي، مع مرور الوقت ستصل للحالة المثالية التي تريدها، نضج تجربتك الجسدية سيجعلك تفكر في الانتقال لقطار آخر تعيش قيه تجربة أخرى أعمق..

في قطار بجانبه ستعمل على تعزيز صحتك النفسية، ستفهم جذور المشاكل والترومات النفسية المتأصلة، ستتفهم تصرفات الآخرين وحزنهم واكتئابهم وستتعاطف معهم، وتستنكر أي تصرف مسيء أو صفة لا أخلاقية وتبحث عن الأسباب وستقرأ كثيرًا عن علاقة صحة الجسد بصحة النفس والعقل، ستكتب كثيرًا وتساعد الآخرين وتستمع لما ما بداخلهم، وستحاول أن يصل صدى صوتك لمن هم في مرحلة التجربة الجسدية ليكونوا في حال أفضل وصحة دائمة..

ستشعر بالرغبة في خوض تجربة أعمق، تنتقل لقطار آخر لتعيش تجربة روحية، صمت، تأمل، عزلة، انعكاس لكل تجاربك عليك، تستغل صحتك الجسدية والنفسية للوصول لأعمق نقطة في روحك، تبحث عن جراح الروح الخمسة، تهتم بتنظيف ما ترسب في الأعماق لتنطلق شرارة لا نهائية ♾️ تشبه أفعى تأكل ذيلها (كواندليني) فتفجر طاقاتك وتتحرر روحك وتفتح لك عين البصيرة الفائقة وترى ما لا يراه الآخرون فيما يشبه ESP، تنظر بحب للساكنين في بقية القطارات، وتمنح حكمتك التي اكتسبتها لمن يرغب ويستحق..

في قطار يليه، ستصعد فوقه، تحلق، تراقب، تكشف الطريق لمن تعطل قطاره أو حاد عن المسار، تخبرهم بأن الوجهة واحدة، والوصول مؤكد، والمحطات التي بالطريق فرصة لزيادة السرعة وتكامل التجارب الجسدية والنفسية والروحية، وإحدى هذه المحطات التي ستزودك بما يغنيك وتعطيك فهمًا أكبر لطبيعة الرحلة: رمضان..

حفلة في رأسي..

دفوف وطبول وصوت كأنه ثلاثة عشر غرابًا يحتضر، إن الذي أقنع هذه المطربة بأن صوتها يصلح للاستهلاك الآدمي فهو يستحق الشنق بحبل غسيل مهترئ، يزداد الصوت وينخفض وكأن أحدهم وضع عند أذني جهاز التحكم عن بعد، أود الاستيقاظ بشدة لكن جسدي وعينيّ لا يطاوعاني رغم أنني واعٍ كشخص عاد من غيبوية عميقة، ألم يجد الجيران موعدًا لطقوس فرحهم إلا آخر الليل؟!

لم أعد أحتمل فخرجت متثاقلًا إلى صالة المنزل، الجميع نائمون، لطالما حسدت الأشخاص الذين ينامون بعمق وسط العواصف والحروب وعتاب الأحبة ومدرس يشرح درسًا مملًا بحماس لا يلاحظه أحد، كيف لا يسمعون هذا النعيق المتواصل المبتهج وكأنها حفلة عزاء؟!

فكرت في الخروج إلى الشارع وتقديم شكوى للجيران لعلهم ينهون هذه الليلة بسلام قبل أن أرتكب جريمة ثم أبلغ الشرطة، فلن أذهب للشرطة وأنا أعاني من صمم جزئي؟!

الشارع هادئ كأفكار شخص يدعي السعادة، إضاءة خافتة متقطعة من عمود الإنارة الذي يسبق وجوده كل البيوت في حيّنا، السيّارات نائمة، البيوت جاثمة على صدر الشارع، والحيوانات في سبات عميق، وليس هناك صوت يحتفل من بيت الجيران، لعلهم شعروا بالخجل من إيقاظ نصف سكان الكرة الأرضية، أولم يجدوا غير ساعات السحر ليحتفلوا؟!

صعدت للمنزل، مع كل درجة أخطوها للأعلى يعود الصوت، هل كانوا في استراحة عندما كنت بالشارع، ولكن لم يكن هناك زحام سيارات المنتظرين المعتاد، أحاول أن أميز الأغنيات التي أسمعها بقليل من التركيز لكن لا فائدة، اللحن معروف وشعبي ومزعج لكن الكلمات يتهيأ لي أنها بالعربية لكنها ليست كذلك، هل هو زفاف للمتحدثين بالأمهرية أو الأمازيغية أو لهجة عربية لا نفهمها، سأستبعد العبرية فليس هناك يهود في حارتنا وإن كان بعض الجيران لو انتقل لدولة الكيان الصهيوني لتعوذوا منه..

عدت إلى الشارع مجددًاً، هدوء تام، عدت أدراجي إلى درج المنزل، يزداد الصوت مع كل درجة أصعدها، دخلت المنزل فإذا بالحفلة تزداد صخبًا في رأسي، هل أنا أتوهم؟! أيقظت كل من بالمنزل لأسألهم إن كانوا يسمعون شيئا فلعل هناك من نسي هاتفه أو جهاز الكمبيوتر على مقطع حفلة موسيقية من الجحيم، استنكروا فعلتي بإيقاظهم من نوم يأكلون فيه أرزًا بالحليب في السماء وإجبارهم على أن يعودوا للأرض ويستيقظون على منظر شعري المنكوش ونظارتي السميكة وسؤالي السخيف: هل تسمعون صوت الحفلة؟!

مرّ عامان على هذه الحادثة، حواسي معطلة، صداع لا ينتهي، شرود في الفراغ، لم أترك طبيبا مختصًا أو شخصًا روحانيًا لم أسأله عن حالتي، كل الأشعات لأذني سليمة، وكذلك كل التشخيصات النفسية والعقلية وليس هناك آثار سحر أو عمل بالمنزل، لو كان هناك عيادة تنزع الأصوات من عقلي كما ينزعون الأسنان لتوجهت إليهم، لم أعد أسمع شيئًا يذكر عدا الحفلة، كل حواراتي تنتهي بهز الرأس أو طلبي ممن يحاورني بالكتابة حتى أفهم، بدأت أميز بعض الأصوات في الحفلة وأتعلم لغتهم، هناك من يقول لي بأنني ممسوس أو أن جنية عاشقة قررت الزواج مني وهم يحتفلون منذ وقتها، لا أعلم أي جنية محترمة تقبل بي وسط هذه الحياة الصاخبة داخل وخارج رأسي، ليس لي مجال سوى التقبل، أوليس يقال إن لم تستطع المقاومة، فحاول الاستمتاع على الأقل، إن علمتم عن حل لمعضلتي فأخبروني وأعدكم بألا أدعوكم لهذه الحفلة..

إعادة تدوير الأيام

للبيع:

-يوم الهنا، يوم المُنى، ساعة السعد.. (لدي فائض لا أحتاجه)، السعر قابل للتفاوض مع رسم فائدة 3 ساعات..

-أيام طه حسين (طبعة منقحة ومزيدة)..

-أيام من حياتنا (مسلسل أميركي من 15 ألف حلقة بدأ عرضه في الستينات، تعبت من متابعته)..

للتقبيل:

-يوم قابلتهم وظننت أنني بين أصدقاء حقيقيين، هذا اليوم بمن فيه للتقبيل وافعل بهم ما أردت..

-يوم من الأيام، ذات يوم (ثيمة مستهلكة في كتابة القصص ولم أعد أحتاجها)..

-يوم سعيد (قلتها لأحدهم ولم يلق لي بالًا)..

للإيجار:

-يوم أربعاء قديم مع ليلة خميس (من زمن الطيبين كما يزعمون)، سعر الإيجار ساعة إضافية تسند يومي هذا..

-أيام ميلادي القادمة (لا أريد أن احتفل باقترابي من نهاية هذه الرحلة)، السعر ثابت فلا تحرجني، للمفاهمة التواصل على الخاص..

للتنازل:

-يوم أسود، نهار أبيض، يوم منيل بستين نيلة (وهناك ألوان أخرى إن أردت، تستطيع تذويب الأيام ووضعها في بالتة ألوان لرسم الحزن)..

-أول يوم في كل عام (وعود كثيرة وبدايات لا حصر لها وخطط وئدت في مهدها)..

-يوم للذكرى (أود نسيانه)..

للإعارة المؤقتة:

-فرحة يوم تخرجي (هدية لمن ترك دراسته رغمًا عنه، لم يستخدم هذا اليوم بعد فلقد فوتت كل حفلات التخرج رغمًا عني)..

-ودارت الأيام (لعل حظك يفوق حظي وتعود الأيام الجميلة إلى حضنك)..

للتبنّي:

-يوم جديد كنت نائمًا فيه ولم أستيقظ، (لا تنم فيه رجاء)..

-يوم 29 فبراير في سنة غير كبيسة (يتيم لم يجد من ينصفه)..

-يوم مفقود (سافرت فيه باتجاه الغرب ووصلت صباحا للشرق)..

للعرض في مزاد:

-يوميات، (كتاب ابتلع الأيام والأسرار التي لا تهم إلا صاحبها)..

-أيام زمان، (وهل لها غير المتاحف والمزادات لزبائن الحنين)..

-يوم من أيام كوكب نبتون (يعادل 6.5 يوم أرضي)..

للتبرع:

-يوم قلت فيه لقلبي: نعم (رغم ممانعة عقلي)..

-الأيام الحلوة (لم يعد يحتاجها إيهاب توفيق)..

-أيام إجازات متراكمة (توفي صاحبها ولم يستخدمها)..

ما يحدث في حارتنا، يبقى في حارتنا..

توسطّا المشهد الترابي، الألوان باهتة عدا وريقات خضراء تنبت هنا وهناك تحت (مكيفات) المنازل التي تحيط بساحة المعركة، يرتديان ملابس عدد ثقوبها يعبر عن مرات العودة من السقوط وكأنها ندبات محارب. تحت أقدامهما عُلب (نيدو) صدئة ملأى لأعلاها بالغنائم الزجاجية الملونة، أخرجا حفنة بقدر ما استطاعت أيديهما الصغيرة حَملهُ من (البرجون – marble) أو ما نسميه في لهجتنا المحلية (حَلي) ولعله من الحُليّ، نظرات التحدي في أعينهما تنبئان بالكثير لكنهما تتفقان في ضرورة العودة بعلبة غنائم (أيضًا صدئة) أو خسارة كل شي، وكأنهما في منتصف مشهد حلبة قمار في مونت كارلو وفيجاس حيث كل شيء مباح ولسان حالهما يقول:

Win it all or lose it all

يجتمع حولهما أطفال الحارة وبعض كبارها يراقبون دائرة المنتصف حيث ترتص الكرات الزجاجية الصغيرة لتكوّن خيطًا أضاف الألوان إلى المشهد الصاخب، وبين أيديهما كُرات أكبر منها موحدة اللون وتُسمى (كبّوري) وتُكنى حسب لونها (صفوري) أو (زروقي) أو (حموري) في لمحة ساخرة لمنح أسماء مدللة لكيانات مدمرة لمثيلاتها، إنها لعبة تشبه البولينج أو البلياردو ولكن على صعيد أصغر، وقفا بتحدٍ رافعان البنطال لحدود الركبة ومتخذان وضعية الرامي فيغمضان عينًا ويفتحان الأخرى لأقصى تركيز ويحاولان اقتناص الفرصة برمي أكبر ما لديهما من أسلحة (كبورية) ليمزقا تناسق ذلك الخط الملون من الكُرات منتظرين بلوغ أي كرة صغيرة لحدود الدائرة وتتجاوزها لكي يعلن الانتصار، ولسان حال الحاضرين لهذا المشهد هو: من منهما سيعود بالغنائم؟!..

وسم..

لم تكن في منزلنا مصدرًا للسعادة فحسب، بل كانت فردًا حقيقيًا من العائلة، تشاركنا الأفراح والأسرار والذكريات وإن كان تعبير وجهها واحدا لا يتغير، لكن تفضحها عيناها إذا اتسعتا..نَهَرت أمي أخي يومًا إذ عَمِدَ لوسمها خلف اذنها بملعقة ساخنة تاركًا شكل هلال مكتئب ومواءً خائفًا لا يشبه أي شيء سمعته من قبل، فانزوت تحت دولاب قديم وامتنعت عن الطعام والشراب وكأن صدمة الموقف أفقدتها ملامح وجهها الجامدة واتساع عينيها فصارت أشبه بمومياء نسي الطريق إلى الجانب الآخر من الموت..

مرت أيامًا معدودات علينا وبعدها لا شيء، لا شيء تحت الدولاب، ولا في المطبخ، ولا في الغرف، لم نترك شبرًا في البيت غير مقلوب، بحثنا حتى في أضيق الأماكن التي لا تخطر على بال حشرة، ولم نترك مكانًا بالحي لم نبحث فيه عنها، لا شيء، اختفت قطتنا الأليفة، غابت كتلة القطن الناصعة عن المكان، وغابت حلاوة المكان معها..

مرّ شهر أشبه بعام، عدنا لهواتفنا التي لم نكن لنفتحها إلا لالتقاط صورها وتوثيق حركاتها الطفولية عندما تتمدد على الأرض احتجاجًا منتظرة أحدنا ليمسح على جسدها ويراضيها أو عندما تتثاءب كأنها شبل صغير يقلد والده وينتظر الزئير ليهدر المكان بحضوره..

خرجت مع أخي بعدها للحي المجاور نبحث عن مكان يبيع الفرح، كان يطالع المحلات وكأنه يتابع ألبوم ذكريات لعائلة لا يعرفها، وفجأة صاح ولوّح بيديه في وجهي “القطة، القطة، هناك”، توقفت وعدنا أدراجنا لذلك المحل، دخل كالمجنون يبحث عن منفذ إليها ليأخذها، وأنا واقف أعتذر بشدة لصاحب المحل عن هذا الاقتحام، أحضرها بين يديه وهو يقول، “قطتنا يا أخي، انظر خلف أذنها، هذا ذات الوسم الذي وسمته إياها يوم نهرتني أمي، وجدتها”، أشفقت عليه، توسلت لصاحب المحل أن يبيعها منا رغم تعجبه، وأخذناها إلى السيارة وسط فرحة أخي الهستيرية ودموعه التي لم تكف عن الهطول، نظرت إليهما وقلبي يعتصر، كانت هي بالتأكيد قطتنا بكل ما كان فيها، ولكن (محنطة)..

جريمة لا تغتفر..

وبعد الاطلاع على الأحداث بتجرد، وقيام الجانيان عن سابق إصرار وترصد بالإضرار بعلاقة مقدسة، وحيث أنهما تجاهلا صوت الروح وسلمّا الأمر للإيجو، فإننا نحكم بما يلي:

المجني عليه: علاقة عميقة لم تكن لتنتهي

الجاني: طرفي العلاقة

الجريمة: موت بطيء للعلاقة

سلاح الجريمة: الإهمال

ظروف الجريمة: الوقت تكفل بذلك

الحكم: تحجب السعادة عن كليهما لأجل غير مسمى

حيثيات الحكم: إن تعلم كلاهما الدروس سيعاد تقييم الحكم

تم تصديق الحكم بشمع أحمر متقد وتعليقه على قلبيهما لحين انقضاء المدة..

قاضي الأرواح المتآلفة

في قهوة ع المفرق

اللون الذي يكتسي عينيك يشبه قهوة صباحي، حتى وإن قبّلتْ عينيك الشمسُ في ظهيرة كهذه سأرى لمحة لبقايا كاراميل مخفية في العالم الداكن الذي يسكن بداخلها، عميقة نظراتك وتذكرني بيوم سقطت في فضاء قديم يشبه العوالم الأولى والضحكة الأولى والرشفة الأولى، الأولويات التي لم تفارق ذاكرتي المهترئة بينما أنا هنا أحاول أن أتذكر اللحظة الأولى التي رأيتك بها، عيناك تحاولان إخباري، وتموج البخار من كوبي يتمايل ويمتزج بطيفك، هل أنت حقيقة أم ذكرى تمردت من بقايا أحلام بائدة وأطلال حياة غابرة عبرت من خلالي، هل أنت تلك العينين، أم أن قهوتي تتلاعب مشاعري؟!

برغم كل ما قاسيته وكل ما تناسيته، ورغم صوت فيروز وهي تغني (تخلص الدنيى. ومافي غيرك يا وطني) وأنا عالق وأحاول التقاط أي ذكرى تعطي الأمان لعقلي الذي يشتكي من فقدان الذاكرة المؤقت، أي ذكرى عابرة يتشبث بها عقلي ولو كانت لأشخاص لا أعرفهم كمن هم أمامي يتهامسون ويتساءلون عن سر حديثي معك، ويكاد يقتلهم الفضول وهم يرونني أحادث كوب قهوة يتصاعد بخاره للسماء ولا يعود، كذكرياتي التي نست نفسها وصعدت هناك معتقدة أنها أمنيات أنهت مهمتها، كرائحتك التي تشبه الصباح وفيروز والحياة..

سئمت التظاهر بأنني توقفت عن حبك، والنسيان الذي ينتزعك من مروجي زهرة زهرة إلى أن أصبح قاحلا عاجزا عن استرجاعك، لا سواها القهوة تعيدك إليّ، رشفة من عينيك وأخرى من مبسمك وثالثة من روحك والرابط الأثيري الذي ما زال يجمعنا، أعتصر ذهني لئلا تهربي من كوبي الذي يحمل تفاصيلك وسط سائل داكن، وبينما يحادثني شخص ما يحمل على صدره شارة بها اسمه وكلمة باريستا: ” أرجو أن قهوتنا الجديدة يا أستاذي قد أعجبتك فهي من مزرعتنا في جبال فيفا، قهوة سعودية فاخرة”..
هنا عرفت السر، فهذه القهوة أصبحت وطني، ففيها رائحتك وعينيك، وبقايا كاراميل خفية لا يراها سواي..

حب الكتابة وكتابة الحب..

كاتبٌ ما، في زمن ما، قرّر أن يخلد حُبًّا حقيقيًا عاش أحداثه بشغاف قلبه، وأن يتيح فرصة لخيالاته لأن تتجاوز الجدار الفاصل بين المنطق والكتابة، حيث أن الكتابة فعل لا يتقيد بالمعقول ولا ينصاع للقوانين المفروضة عليه، كذلك الحب الحقيقي لا يعترف بزمن أو أمكنة أو تقاليد بالية، ففعل الحب يقع على رأسك بدون مقدمات، ولذا فإن الحب والكتابة وجهان لذلك التمرد على المألوف، وجهان للخلود..

نوى الكاتب أن يزرع فكرة، استعرض الكلمات التي يعرفها، استعان بالكتب التي قرأها، نظر للسماء حينًا وللأفق حينًا، يبحث عن غيمة تروي فكرته، عن نجمة تتبنى حلمه عندما يطلقه إلى الأعلى، كان يجول النظر هنا وهناك، يبحث عن عينيها، عن تأثير ساحر يعيد شغفًا راحلًا وأملًا مؤجلًا، شيئًا ما يُرجع إليه هاجس الفكرة، المساءات الأولى، انبهار البدايات وشهقة الرحيل، وفكرة يخلدها عن الحب والكتابة..

بيد أنه عانى أيما معاناة، فالكتابة عصية حينما تنتظرها، تصافحك بيد وبالأخرى تعطيك قفلة الكتابة، ستعطيك سببًا لتبدع وأسبابا أكثر لتهرب، ستهديك حواسًا إضافية وحيوات لا حصر لها، وستجردك من ذاتك ومن يراعك وأفكارك، فقط لأنك تريد آن تكتب عن الحب، لك أن تحب الكتابة لكن إياك أن تكتب عن الحب وأنت راض ٍ ، السبيل الوحيد لذلك، أن تصادق الكتابة، وتعطيها المجال لكي تخلد هي قصة حبك، بلا تدخل منك..

رسائل مني إليّ..

إلى وليد

بتاريخ 15/5/1978

يومان قبل ولادتي

“أمامك حياة حافلة، لا تثق جِدًا، أو تعطي جِدًا، أو تتفائل جِدًا، فتحزن جِدًا جِدًا جِدًا.. توازن وتعلّم وتطوّر ما استطعت..”

إلى وليد

بعد خمسة أعوام من وفاتي

“قلت لك، لن يتذكرك من أفنيت وقتك لإرضائهم، لن تشفع لك اختياراتك، لن يرضوا عنك وإن صببت العسل في أفواههم، لن يرحمك سوى من نفخ النور فيك، لكن يكفيك أنك تركت أثرًا يُروى خلفك..”

إلى وليد

في العالم الموازي

الطبيب الذي انفصل عني ورفض قرار استسلامي واستمر في مفترق الطريق

“لو كنت فقط أعلم الوصفة التي ساعدتك للاستمرار، ربما كنت مثلك، ولكنني كنت سأفقدني حينها، فحلم الطبيب الذي فقدته أرشدني لأحلام عدّة ومواقف عدّة وذكريات لا حصر لها، شكرًا لأنك لم تستسلم وأصبحت طبيبًا، وشكرًا لأنني لم أستسلم وأصبحت أنا..”

إلى وليد

بطل الرواية التي كتبها أحدهم فاعتقدت أنني شخص حقيقي

” مرهق أن نقفز عبر الصفحات نبحث عن منفذ إلى العالم، في كل مرة تفادينا رغبة الكاتب في اغتيالنا أو تحويلنا إلى شهداء ليُثبت صحة قناعاته عن التضحية، كُنا تتملص بين الأسطر، نحمل خيوط العوالم بين أيدينا نفرزها لنعود إلى خيط حياتنا الحقيقية، علينا أن نعود قبل أن تنتهي الرواية وتُطوى الصفحات ويُوضع الكتاب في مكتبة لا يزورها أحد”

الفتى الذي أراد أن يسرق قوس المطر

(1)

الحادية عشرة ظهرًا، الشمس أشاحت بوجهها لليوم السادس على التوالي، تشرق ولا يراها، نورها يترك أثره في جنبات النهار لكن لا أثر لها في السماء التي تارة تختبئ خلف ستارة كثيفة من الغبار وتارة تفتح أبوابها لمطر منهمر، ولا أثر للشمس، ولا لقوس المطر..

رأى الشمس قبل أيام بوجه أبيض، سأل معلمه عن ذلك “أليست الشمس صفراء يا معلمي؟!”، بدد المعلم حيرته بقوله: “الشمس بيضاء يا (نائل)، كل النجوم كذلك، وما نراه في السماء من تدرج للون الشمس بين الأصفر والبرتقالي والأحمر هو بسبب الغلاف الجوي، تماما كما نرى البحر بدرجات لونٍ أزرق والسماء زرقاء، ولولا ذلك لما ميزنا خط الأفق بين السماء والبحر”، أقنعه كلام معلمه خاصة وأن القمر يعكس نور الشمس، وكما نرى القمر أبيضًا لنتذكر أنه مرآة تعكس الشمس إلينا ليلًا كي لا نتوه في الظلام..

إحدى عشرة دقيقة مرت وما زال يرقب الشمس خلف زخات المطر الذي بدأت وتيرة سرعته تخف تدريجيًا، ولليوم السادس على التوالي يبحث عن قوس المطر ولا جديد تحت الشمس، نادته شقيقته الصغيرة (نيروز):

-(نائل)، أنا حزينة، لا أستطيع أن أرسم المزرعة..

ألقى نظرة على ما رسمته، على الألوان الشمعية التي استحالت كتلًا رمادية بلا ملامح، على منظر أمه على فراش المرض وبجوارها قناني الأدوية التي فقدت ملامحها فلا يدري أيُّها للسعال وأيُّها للقولون، حتى هاتفه المحمول شاه منظره وفقد معه حماسته لتصفح منشورات أصدقائه وأخبار العالم من حوله، النافذة المطلّة من بيتهم الريفي على مزرعة والده الراحل تعطيه إحساسًا كئيبًا بالوحدة والموت، أينما أرسل نظراته لا يجد سوى درجات الرمادي، فالألوان غابت عن الوجود يوم اختفى قوس المطر..

اقتربت (نيروز) واحتضنت يد (نائل) قائلة:

-(نائل) أنا حزينة جدا، من الذي سرق الألوان؟!

أجابها بكل حسم وهو يرتدي درعًا خفيًا من المسؤولية والبطولة:

-سأكتشف ذلك اللغز المحير، وكما سُرق قوس المطر فسأسرقه وأحضره إليك لتكملي رسمتك وتتناول أمي دواءها..

بابتسامة واسعة وعينين لامعتين كأنها اكتشفت سرًّا كونيًا:

-(نائل)، أخبرني الأقزام بأن في نهاية قوس المطر جرة ملأى بالذهب، أحضرها معك كي أشتري حلوى وشوكلاتة وألوانًا جديدة، أرجوك (نائل)..

ضحك على خيالها الواسع، ووضع يده على رأسها:

-بالتأكيد أميرتي الصغيرة، سأحضر الجرة والأقزام وقوس المطر ولو اضطر الأمر لسرقتها جميعًا..

عاد إلى مكانه بجوار النافذة ومكث برهة يستعد ذهنيًا لقراره ويراقب نزول قطرات المطر ويتخيل أنه قطرة ناضجة قررت الرحيل من منزل السحابة التي احتضنته وأرادت تحقيق هدفها الأسمى من الحياة وتساهم في إحياء الأرض..

إقرأ المزيد